لم يعد ثمة شك أن معركة حضارية كبرى تدور رحاها الآن بين الحضارة الإسلامية بكل ما تحمله من قيم وأخلاقيات وتصورات صحيحة، ولماهية هذا الكون ومآله، وبين الحضارة الغربية الوثنية الصليبية وما تحمله من تصورات مشوهة، ونزعة إستعلائية، ورغبة محمومة للسيطرة والنهب.
ولكن هذه الحضارة الخبيثة تملك أدوات القوة المادية من علوم متقدمة وأسلحة دمار رهيبة وإقتصاد متين ووسائل إعلامية غاية في الدهاء، فهي تملك الكثير من وسائل الإقناع والإبهار في الوقت الذي يعاني فيه المجتمع الإسلامي -الذي تقع عليه مسؤولية المواجهة- الكثير من عوامل الضعف والخلل والتشرذم في ظل وضع عربي ضعيف، وثقافة تافهة أو متغربة وتعليم تشرف عليه المراكز الأجنبية في الكثير من بلادنا العربية حيث تحدد طبيعة المناهج المطلوبة حتى يتم تجفيف منابع وضرب الهوية الإسلامية.
..... والسؤال الملح الآن هو:
ماذا يملك المجتمع الإسلامي أن يفعل ليغير موازين القوى هذه، ويمسح الغبار عن وجه حضارته حتى يضعها في مكانها اللائق بها؟
ولاشك أن الإجابة عن هذا التساؤل بحاجة إلى مجهود إبداعي جماعي ضخم، لكنه يبدأ بالتأكيد بمحاولات فردية للبحث عن حل، ولعل هذا الفهم يؤكده قوله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه البخاري: «كلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع والرجل راع على أهل بيته والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع، وكلكم مسؤول عن رعيته».
فالمسؤولية الجماعية الغائبة لا تبرر غياب المسؤولية الفردية، بل يمكن القول إن المسؤولية الفردية هي البداية الحقيقة للمسؤولية الجماعية، والبيت المسلم هو نواة تلك المسؤولية المجتمعية المنشودة، والبيت المسلم هو حجر الزاوية في معركتنا الراهنة مع تلك الحضارة الغاشمة، فهو الوحيد الذي يملك دحرها بعد أن ينزع عنها أظافرها الجارحة.
فعندما يرفض الشاب والفتاة القيم الإستهلاكية السخيفة التي زرعوها في مجتمعاتنا، فتبدأ الحياة الزوجية بأبسط صورة ممكنة بعد حفل لا يشبه حفلاتهم الماجنة الراقصة، بل بإحياء السنة في الوليمة، وغناء العرس، فهذه أولى الطعنات التي توجه إلى أعداء الإسلام، وعندما لا تلتزم الأسرة بتحديد نسلها وفقا لما يخططون خشية المستقبل حين تتحول مجتمعاتهم إلى دار كبيرة للمسنين والعجزة، بينما تفيض مجتمعاتنا بالشباب والحيوية فهذه خطوة على الطريق.
¤ جيل النصر المنشود:
أما الطعنة التي نوجهها لهم في السويداء، فهي تنشئة الأبناء، وتربيتهم تربية رسالية تعدهم أن يكونوا جيل النصر المنشود، تلك التربية التي ترتعد فرائصهم خوفاً من تحققها فيحاولون جهدهم أن يشتتونا عنها، وهذه التنشئة هي التي ستخرجنا من تلك الدائرة الجهنمية المغلقة التي ندور فيها.
والجهاد الحقيقي أن تعد جيل النصر واقع المنشود هذا في تحكمه الهزيمة، وهذه بعض الأسلحة التي يحتاجها البيت المسلم في معركته المقدسة لمواجهة الحصار الإعلامي الذي يهدف إلى تنشئة الطفل المسلم وفقا للنموذج الغربي المشوه من خلال قصص الكارتون التي تدعو للعنف، وتمجيد القوة وأحيانا للإنحلال الأخلاقي، فمن الممكن إعادة الإعتبار للقصة التي ترويها الأم لطفلها قبل النوم، بحيث تحمل بالدلالات الهادفة، ومن الممكن إستلهام بطولات الصحابة وقادة المسلمين الكبار، والمهم أن تروى القصة بأسلوب جذاب ومناسب للمرحلة السنية التي يمر بها الطفل، وهذه القصة التي ترويها الأم لها خصوصية اللقاء المباشر والحميمي الذي يتفوق على إمكانياتهم المبهرة في أعمالهم المقدمة.
= ولمواجهة هذا الحصار الإعلامي أيضاً لابد من إختيار وإنتقاء ما يشاهده الأبناء على شاشة التلفاز، وعدم تركهم فريسة سهلة لكل ما يبث، وذلك كمرحلة أولى وتمهيدية حتى يتعلم الأبناء كيفية الاختيار والقدرة على النقد.
= وفي مواجهة السياسة التعليمية المتخلفة المفروضة علينا من الممكن أن يكون للبيت دور كبير في إصلاح الخلل الموجود في مناهج التعليم، وإنماء روح النقد والتحليل لدى الطفل من خلال المناقشة التي تتم أثناء الشرح الذي يقدمه الأب أو الأم، والذي يضفي على المنهج الدراسي التوجه المطلوب خاصة مع مقررات اللغة العربية والتاريخ والجغرافيا، وعلى الأقل فإن هذا يوفر المبالغ الطائلة التي تقتطع من ميزانية الأسرة من أجل الدروس الخصوصية، ويا ليت الأم تنتبه إلى ضرورة وجود مكتبة خاصة بالطفل وصندوق لتجاربه العلمية، فهذا الصندوق الصغير بداية لمشروع عالم كبير.
¤ الاقتصاد المنزلي:
وإذا تعلم الطفل منذ الصغر حرفة كالكهرباء أو النجارة أو السباكة، فإنه سيساعد أسرته في أية مشكلة فنية صغيرة قد يتعرضون لها، بل من الممكن أن تكون هذه الحرفة خطوة في طريق تكوين صناعة منزلية مزدهرة تحاكي تجربة الصين واليابان التي يسهم أطفالها في أعمال منزلية رائعة وبسيطة، وعلى الأم أن تساعد في ذلك وأن تبدأ بصناعة العرائس لأطفالها بدلاً من شرائها.
ـ والمواجهة الإقتصادية لا تقل بحال عن المواجهة الإعلامية أو التعليمية، ولعلها المواجهة الأكثر شراسة فأعداؤنا يشنون علينا حرباً إقتصادية متوحشة لمص آخر الدماء من عروقنا، وإذا كنا كأفراد لا نملك تغيير السياسة الإقتصادية الرسمية، فنحن نملك تغيير السياسة الإقتصادية داخل بيوتنا لتحقيق نتيجة باهرة وذلك عن طريق توسيع مساحة التصنيع المنزلي إلى أقصى حد ممكن، فبدلاً من شراء أغذية محفوظة للأطفال تضر صحتهم إلى ما لا يمكن تصوره إذ إنها متهمة أي الأغذية المحفوظة برفع نسبة الإصابة بالسرطان بين الأطفال، وفي الوقت ذاته تحول اقتصادنا إلى اقتصاد هش لا يأبه إلا بالتوافه الإستهلاكية.
ـ أما البيت المسلم فهو إضافة حقيقية لإقتصاد بلاده حيث تقوم ربة المنزل بدورها في التصنيع المنزلي المفيد واللذيذ والرخيص في آن واحد، فهذه المرأة التي ننشدها تهتم بقضية التغذية بشكل مختلف عن الدور التقليدي لربة المنزل التي لا تفقه دورها الحيوي في المعركة.
لذا يجب أن يكون شعارنا: كل الأغذية التي يمكن صناعتها منزلياً لابد من صناعتها منزلياً، وما يمكن تصنيعه في المنزل أمر فيه متسع يختلف على حسب البيئة والقدرات الفردية -تربية دواجن خلايا نحل مشغولات فنية لعب أطفال...وغيرها.
وهذا هو دور المرأة الحقيقي، وهذه هي المرأة التي يطمح إليها، والتي لا يمكن مقارنتها بتلك التي تعمل طاهية لأبناء الغير في فندق، أو خادمة تقدم الطعام في طائرة أو قرية سياحية.
¤ التحدي الثقافي:
•- هناك بعد سياسي وثقافي لهذا الدور الإقتصادي فعندما تنجح الأسرة المسلمة في مقاطعة مشروب الكوكاكولا والاعتماد على المنتج المحلي -البيتي- فإن هذه الخطوة هي بداية الإنتصار لأن القضية ليست مجرد التخلي عن سلعة إستهلاكية عديمة القيمة وضارة بالصحة، بل تحدي الثقافة التي تنشرها هذه السلعة، وتحدي حضارة الكوكاكولا، وتحدي الدعاية المكثفة المحملة بروح ثقافتهم الخبيثة، وهذا معناه ببساطة أن قرارنا بأيدينا وليس بأيدي الشركات العملاقة متعددة الجنسيات.
بقى أن نقول: إن البيت المسلم وهو يجاهد في هذه المعركة لا يعمل للمستقبل فحسب، بمعنى أنه لا يعمل لتكوين جيل النصر المنشود فحسب، وإنما يعمل لإكتشاف ذاته وتكوين جيله الراهن قبل جيل الأبناء بدخوله في هذه المعركة الحيوية التي ستمنحه طاقة بلا حدود، وستجعل أبواب الأمل مفتوحة أمامه بعد أن إستنزفته جراح الهزيمة طويلاً.
الكاتب: فاطمة عبد الرؤوف.
المصدر: موقع المختار الإسلامي.